سياسة مراهق
لن أعتبر ما سوف أكتبه كلاماً في السياسة ولو أن مما وصلت اليه من قناعات أنه يكاد أن يكون جوهر السياسة ولن أنظر إلي ما سوف أسطره إلا علي أنه نوع من الفضفضة يمكن أن تكون محاولة للفهم ، او لاستدراك واقع تأخرت بصورة ما في عملية استيعابه هذا ما أظنه
كانت عملية استيعابه لا تحتاج هذا الوقت ولكنها في النهاية أخذته وها أنذا استطرد هذه الذكريات التي حملت في مجملها نوعاً من الانارات التي اظنها اهدتني إلي حد كبير إلي الطريق وأضاءت لي السبيل
أتذكر جيداً أنني كنت بالمرحلة الثانوية وقتها وفي أحد الجولات الرمضانية وفي أحد ليالي العشر الاواخر من الشهر الكريم وقبل حلول عيد الفطر المبارك وقتها ، وبعد ساعات من ذبح واحدة من الصدقات وتجهيزها للتوزيع توجهت مع بعض من الاخوة الكرام لأحد بيوت الأحياء القديمة بمدينتنا لتجهيز العظام حيث كانت معلومة جديدة لي أن عظام المواشي لها بعض الاستخدامات ، وبالفعل توجهنا إلي أحد المنازل التي لا اتذكر تحديداً مكانها إلا أن صورة المنزل تكاد لا تغيب عن خيالي ، جلسنا مع سيدة يقترب سنها من الخمسين لا تكاد تستطيع الحراك ، حيث أخبرني من معي أنها مشهورة بهذا الأمر وبالفعل لم تمض ساعة إلا وكانت قامت بالمهمة وهي جالسة مكانها لا تتحرك ، وكلما انتهت من بعض الأجزاء حملها بعضنا للسيارة
بدأت كعادتي النهمة في إلقاء الأسئلة علي السيدة بكل ما تحمله نفسي من سذاجة وقتها ، عن الأحوال والظروف وعن هذا الأبن الصغير الذي كان يلهو حولنا والذي لا أتذكر الآن إلا أن أسمه محمداً ، وكعادة هؤلاء البسطاء فقد أستطردت في السرد المتقطع عن نفسها ومعاناتها ، تأخذ أنفاساً طويلة ثم تعيد الكره في تكسير العظام لتتوقف قليلاً لتعود إلي سردها من جديد
لم يكن السرد الذي اثار حفيظتي ولكن الذي أخذني بصورة كبيرة هو هذه الغرفة الصغيرة التي لم تكن غرفة وانما محل متهالك يبدوا كمسن عجوز أرهقته الحوادث والأيام ، حتى بابة الذي لم يكن باب منزل بالطبع وانما باب متجر يكاد لا يغلق ، إن كان حقاً يمكن أن يحدث له إغلاق
توقف عقلي عن الاستيعاب إلا أنني أدركت الأمر بعض لحظات ، أنه مسكن ووسيلة أسترزاق ، أو بصورة ألطف إن مسكنهم هو محل عملهم أو عملهم محل سكنهم ، ربما لا تعنيهم كثيراً هذه الأسماء ، الخلاصة أنهم يعيشون في العراء أو أقل قليلاً من العراء أو في وجة نظرهم أفضل كثيرا من منازل الصفيح التي تمتلئ بها البلاد
يقطن بالغرفة خمس أفراد ، تنطلق الفئران فيها حرة أكثر مما ينطلق فيها هذا الطفل الصغير ، حتى أنها تكاد تعلن لساكنيها أنهم قد زاحموها قبل أن تزحمهم هي المكان
أخذت أداعب الطفل الصغير بكلتا يدي ، بحثت في جيوبي لعلي أجد بعضاً من المال ، وعندما عجزت وجدت أحد الهدايا الصغيرة التي كنت أقوم بتوزيعها لأعطيها للطفل الصغير الذي أمتلأ وجهه بسعادة لطيفة أخفت قليلاً من الشكر الذي عجز عن التعبير عنه بالكلمات .
أخذني عقلي بعيداً والسيارة تنطلق في حثيثة بين الأزقة والحواري متسائلاً عما حصلت عليه هذه السيدة من أجرة نظير هذه العمل المرهق والعسير ، فأجابني أحدهم أنه بعض من العظام ، ووجبة من لحم لم يدخل بيتهم أو محلهم من بضع من الأشهر وإن كنت لا أظنه من الأعوام ، تذكرت نظراتها الشاكرة لهم علي ما منحوها في هذه الليلة التي عدتها حسب تصوري من أفضل الأيام ، عاد خيالي للتحليق بعيداً عن الجميع لأفكر في مستقبل هؤلاء ، فشعرت أن بي نوع من الهذيان ، فهم لم يفكروا بعيدا ليوم أو يومين أو لعدد من الأيام ، وتذكرت مستقبل الطفل الصغير فتوقف عقلي عن الدوران
تذكرت كثيراً من الهتافات .................
وكثيراً مما يطلق عليه مسيرات ومظاهرات ................
تذكرت كثيراً مما كنت أحسبه نوعاً من التمرد أو ابداع في فهم السياسات.................
تذكرت كثيراً من الحوارات أو المجادلات ..........................
تذكرت مواسم الانتخابات ....................
أو عشق بعضهم للحديث عن اوهام الصراعات ................
أدركت أنها نوع من العبث إن لم يوجد الانسان ، وأنها لم تكن إلا مزحاً ثقيلاً خارج الزمان والمكان ، وأن ما كنت أحسبه رسالة هو هرولة للهروب للخلف لأن هناك من لم يستطع دفع ضريبة الأمام
أدركت أن السياسة تكون حقاً كذلك إذا خططت لبناء الانسان ، وليست شعاراً يلقي لأثبات حسن البيان ولا خطبة رنانة تأخذ الأذهان ، انها فقط محاولة لصنع الانسان .
أمين محمد امين
30 / 5 / 2009
كانت عملية استيعابه لا تحتاج هذا الوقت ولكنها في النهاية أخذته وها أنذا استطرد هذه الذكريات التي حملت في مجملها نوعاً من الانارات التي اظنها اهدتني إلي حد كبير إلي الطريق وأضاءت لي السبيل
أتذكر جيداً أنني كنت بالمرحلة الثانوية وقتها وفي أحد الجولات الرمضانية وفي أحد ليالي العشر الاواخر من الشهر الكريم وقبل حلول عيد الفطر المبارك وقتها ، وبعد ساعات من ذبح واحدة من الصدقات وتجهيزها للتوزيع توجهت مع بعض من الاخوة الكرام لأحد بيوت الأحياء القديمة بمدينتنا لتجهيز العظام حيث كانت معلومة جديدة لي أن عظام المواشي لها بعض الاستخدامات ، وبالفعل توجهنا إلي أحد المنازل التي لا اتذكر تحديداً مكانها إلا أن صورة المنزل تكاد لا تغيب عن خيالي ، جلسنا مع سيدة يقترب سنها من الخمسين لا تكاد تستطيع الحراك ، حيث أخبرني من معي أنها مشهورة بهذا الأمر وبالفعل لم تمض ساعة إلا وكانت قامت بالمهمة وهي جالسة مكانها لا تتحرك ، وكلما انتهت من بعض الأجزاء حملها بعضنا للسيارة
بدأت كعادتي النهمة في إلقاء الأسئلة علي السيدة بكل ما تحمله نفسي من سذاجة وقتها ، عن الأحوال والظروف وعن هذا الأبن الصغير الذي كان يلهو حولنا والذي لا أتذكر الآن إلا أن أسمه محمداً ، وكعادة هؤلاء البسطاء فقد أستطردت في السرد المتقطع عن نفسها ومعاناتها ، تأخذ أنفاساً طويلة ثم تعيد الكره في تكسير العظام لتتوقف قليلاً لتعود إلي سردها من جديد
لم يكن السرد الذي اثار حفيظتي ولكن الذي أخذني بصورة كبيرة هو هذه الغرفة الصغيرة التي لم تكن غرفة وانما محل متهالك يبدوا كمسن عجوز أرهقته الحوادث والأيام ، حتى بابة الذي لم يكن باب منزل بالطبع وانما باب متجر يكاد لا يغلق ، إن كان حقاً يمكن أن يحدث له إغلاق
توقف عقلي عن الاستيعاب إلا أنني أدركت الأمر بعض لحظات ، أنه مسكن ووسيلة أسترزاق ، أو بصورة ألطف إن مسكنهم هو محل عملهم أو عملهم محل سكنهم ، ربما لا تعنيهم كثيراً هذه الأسماء ، الخلاصة أنهم يعيشون في العراء أو أقل قليلاً من العراء أو في وجة نظرهم أفضل كثيرا من منازل الصفيح التي تمتلئ بها البلاد
يقطن بالغرفة خمس أفراد ، تنطلق الفئران فيها حرة أكثر مما ينطلق فيها هذا الطفل الصغير ، حتى أنها تكاد تعلن لساكنيها أنهم قد زاحموها قبل أن تزحمهم هي المكان
أخذت أداعب الطفل الصغير بكلتا يدي ، بحثت في جيوبي لعلي أجد بعضاً من المال ، وعندما عجزت وجدت أحد الهدايا الصغيرة التي كنت أقوم بتوزيعها لأعطيها للطفل الصغير الذي أمتلأ وجهه بسعادة لطيفة أخفت قليلاً من الشكر الذي عجز عن التعبير عنه بالكلمات .
أخذني عقلي بعيداً والسيارة تنطلق في حثيثة بين الأزقة والحواري متسائلاً عما حصلت عليه هذه السيدة من أجرة نظير هذه العمل المرهق والعسير ، فأجابني أحدهم أنه بعض من العظام ، ووجبة من لحم لم يدخل بيتهم أو محلهم من بضع من الأشهر وإن كنت لا أظنه من الأعوام ، تذكرت نظراتها الشاكرة لهم علي ما منحوها في هذه الليلة التي عدتها حسب تصوري من أفضل الأيام ، عاد خيالي للتحليق بعيداً عن الجميع لأفكر في مستقبل هؤلاء ، فشعرت أن بي نوع من الهذيان ، فهم لم يفكروا بعيدا ليوم أو يومين أو لعدد من الأيام ، وتذكرت مستقبل الطفل الصغير فتوقف عقلي عن الدوران
تذكرت كثيراً من الهتافات .................
وكثيراً مما يطلق عليه مسيرات ومظاهرات ................
تذكرت كثيراً مما كنت أحسبه نوعاً من التمرد أو ابداع في فهم السياسات.................
تذكرت كثيراً من الحوارات أو المجادلات ..........................
تذكرت مواسم الانتخابات ....................
أو عشق بعضهم للحديث عن اوهام الصراعات ................
أدركت أنها نوع من العبث إن لم يوجد الانسان ، وأنها لم تكن إلا مزحاً ثقيلاً خارج الزمان والمكان ، وأن ما كنت أحسبه رسالة هو هرولة للهروب للخلف لأن هناك من لم يستطع دفع ضريبة الأمام
أدركت أن السياسة تكون حقاً كذلك إذا خططت لبناء الانسان ، وليست شعاراً يلقي لأثبات حسن البيان ولا خطبة رنانة تأخذ الأذهان ، انها فقط محاولة لصنع الانسان .
أمين محمد امين
30 / 5 / 2009
0 تعليقات:
إرسال تعليق
الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]
<< الصفحة الرئيسية