رحلة البحث عن بديل !!!

السبت، ٢٤ يناير ٢٠٠٩

استوقفتني من قرآتي ( 4 )

التفكير العلمي
د . فؤاد زكريا

أما التفكير العلمي الذي نقصده فلا ينصب على مشكلة متخصصة بعينها أو حتى على مجموعة المشكلات المحددة التي يعالجها العلماء ولا يفترض معرفة بلغة علمية أو رموز رياضية خاصة ولا يقتضي أن يكون ذهن المرء محتشدا بالمعلومات العلمية أو مدربا على البحث المؤدي إلى حل مشكلات العالم الطبيعي أو الإنساني بل إن ما نود أن نتحدث عنه إنما هو ذلك النوع من التفكير المنظم الذي يمكن أن نستخدمه في شئون حياتنا اليومية أو في النشاط الذي نبذله حين نمارس أعمالنا المهنية المعتادة أو في علاقاتنا مع الناس ومع العالم المحيط بنا وكل ما يشترط في هذا التفكير هو أن يكون منظما وأن يبنى على مجموعة من المبادئ التي نطبقها في كل لحظة دون أن نشعر بها شعورا واعيا مثل مبدأ استحالة تأكيد الشيء ونقيضه في آن واحد والمبدأ القائل أن لكل حادث سببا وأن من المحال أن يحدث شيء من لاشيء.

وفي اعتقادي أن موضوع التفكير العلمي هو موضوع الساعة في العالم العربي ففي الوقت الذي أفلح فيه العالم المتقدم بغض النظر عن أنظمته الاجتماعية في تكوين تراث علمي راسخ امتد في العصر الحديث طوال أربعة قرون واصبح يمثل في حياة هذه المجتمعات اتجاها ثابتا يستحيل العدول عنه أو الرجوع فيه في هذا الوقت ذاته يخوض المفكرون في عالمنا العربي معركة ضارية في سبيل إقرار ابسط مبادئ التفكير العلمي ويبدو حتى اليوم ونحن نمضي قدما إلى السنوات الأخيرة من القرن العشرين أن نتيجة هذه المعركة ما زالت على كفة الميزان بل قد يخيل إلى المرء في ساعات تشاؤم معينة أن احتمال الانتصار فيها اضعف من احتمال الهزيمة وفي هذا المضمار لا أملك إلا أن أشير إلى أمرين يدخلان في باب العجائب حول موقفنا من العلم في الماضي والحاضر الأمر الأول هو أننا بعد أن بدأ تراثنا العلمي في العصر الذهبي للحضارة الإسلامية بداية قوية ناضجة سبقنا بها النهضة الأوربية الحديثة بقرون عديدة ما زلنا إلى اليوم نتجادل حول ابسط مبادئ التفكير العلمي وبديهياته الأساسية ولو كان خط التقدم ظل متصلا منذ نهضتنا العلمية القديمة حتى اليوم لكنا قد سبقنا العالم كله في هذا المضمار إلى حد يستحيل معه أن يلحق بنا الآخرون ومع ذلك ففي الوقت الذي يصعدون فيه إلى القمر نتجادل نحن عما إذا كانت للأشياء أسبابها المحددة وللطبيعة قوانينها الثابتة أم العكس وأما الأمر الثاني فهو أننا لا نكف عن الزهو بماضينا العلمي التليد ولكننا في حاضرنا نقاوم العلم أشد مقاومة بل أن الأشخاص الذين يحرصون على تأكيد الدور الرائد الذي قام به العلماء ا لمسلمون في العصر الزاهي للحضارة الإسلامية هم أنفسهم الذين يحاربون التفكير العلمي في أيامنا هذه ففي أغلب الأحيان تأتي الدعوة إلى الدفاع عن العناصر اللاعقلية في حياتنا والهجوم على أية محاولة لإقرار أبسط أصول التفكير المنطقي والعلمي المنظم وجعلها أساسا ثابتا من أسس حياتنا تأتي هذه الدعوة من أولئك الأشخاص الذين يحرصون في شتى المناسبات على التفاخر أمام الغربيين بأن علماء المسلمين سبقوهم إلى كثير من أساليب التفكير والنظريات العلمية التي لم تعرفها أوربا إلا في وقت متأخر وما كان لها أن تتوصل إليها لولا الجهود الرائدة للعلم الإسلامي الذي تأثر به الأوروبيون تأثرا لا شك فيه ومن الجلي أن هذا الموقف يعبر عن تناقض صارخ إذ أن المفروض فيمن يزهو بإنجازاتنا العلمية الماضية أن يكون نصرا للعلم داعيا إلى الأخذ بأسبابه في الحاضر حتى تتاح لنا العودة إلى تلك القمة التي بلغناها في عصر مضى أما أن نتفاخر بعلم قديم ونستخف بالعلم الحديث أو نحاربه فهذا أمر يبدو مستعصيا على الفهم.

الواقع أن الحقيقة العلمية في إطارها الخاص تصدق على كل الظواهر وتفرض نفسها على كل عقل وبهذا المعنى تكون مطلقة فحين نقول أن الماء يتكون من أوكسجين وهيدروجين بنسبة ١ إلى ٢ لا نعني بذلك كمية الماء التي أجرينا عليها هذا الاختبار بل نعني أية كمية من الماء على الإطلاق ولا نوجه هذه الحقيقة إلى عقل الشخص الذي أجري أمامه هذا الاختبار فحسب بل إلى كل عقل بوجه عام ولكننا قد نكتشف في يوم ما أملاحا في الماء بنسبة ضئيلة أو نصنع الماء الثقيل المستخدم في اﻟﻤﺠالتفاعل الذري فيصبح الحكم العلمي السابق نسبيا لا أعنى انه يتغير من شخص إلى آخر بل أعنى انه يصدق في إطاره الخاص وإذا تغير هذا الإطار كان لا بد من تعديله وهذا الإطار الخاص قد يكون هو الاطار الذي تصدق فيه الحقيقة العلمية كما هي الحال في أوزان الأجسام التي يظل مقدارها صحيحا في إطار الجاذبية الأرضية ولكنها تختلف إذا نقلت إلى مجال القمر كما قد يكون هذا الإطار زمنيا عنى أن الحقيقة التي تعبر عن ا لمستوى الحالي للعلم تظل صحيحة وتفرض نقسها على الجميع في حدود معرفتنا الراهنة وبذلك يكون هناك تعارض بين الطابع النسبي للحقيقة وبين قولنا أنها مطلقة بل إن الحقيقة المطلقة كثيرا ما يعبر عنها بعبارات نسبية كما يحدث عندما نقول أن ضغط الغاز يتناسب تناسباً عكسيا مع درجة حرارته مقيسة " قياس كلفن" فالنسبة ذاتها تصبح في هذا القانون مطلقة وان كانت قيم الضغط والحرارة مختلفة فيها باستمرار. وهكذا فان صفة التراكمية في التفكير العلمي تجمع بين الطابع النسبي والطابع المطلق للعلم دون أي تناقض.
هذه السمة التراكمية التي يتسم بها العلم هي التي تقدم إلينا مفتاحا للرد على انتقاد يشبع توجيهه في بلادنا الشرقية على وجه الخصوص إلي العلم وهو الانتقاد الذي يستغل تطور العلم لكي يتهم المعرفة العلمية والعقل العلمي بالنقصان فمن الشائع أن يحمل أصحاب العقليات الرجعية على العلم لأنه متغير ولان حقائقه محدودة ولأنه يعجز عن تفسير ظواهر كثيرة وهم بذلك يفتحون الباب أمام أنواع أخرى من التفسير الخارجة عن نطاق العلم أو المعادية له وواقع الأمر أن هذا ليس اتهاما للعلم على الإطلاق فإذا قلت إن العلم متغير كنت بذلك تصر بالفعل عن سمة أساسية من سمات العلم وإذا اعتبرت هذا التغير علامة نقص فإنك تخطئ بذلك خطأ فاحشا إذ تفترض عندئذ أن العلم الكامل لابد أن يكون ثابتا مع أن ثبات العلم في أية لحظة واعتقاده أنه وصل إلى حد الاكتمال لا يعني إلا بنهايته وموته.

ولكن كيف يحقق العلم هذا النظام في ظواهر الطبيعة المتشابكة والمعقدة المفتقرة بذاتها إلى التنظيم ؟ إن وسيلته إلى ذلك هي اتباع منهج method طريق محدد يعتمد على خطة واعية وصفة المنهجية هذه صفة أساسية في العلم حتى أن في وسعنا أن نعرّف العلم عن طريقها فنقول أن العلم في صميمه معرفة منهجية وبذلك نميزه بوضوح عن أنواع المعرفة الأخرى التي تفتقر إلى التخطيط والتنظيم ونستطيع أن نقول أن المنهج هو العنصر الثابت في كل معرفة علمية أما مضمون هذه المعرفة والنتائج التي تصل إليها ففي تغير مستمر. فإذا عرّفنا العلم من خلال نتائجه وإنجازاته كنا في هذه الحالة نقف على أرض غير ثابتة أما إذا عرّفنا العلم من خلال منهجه فإنا نرتكز حينئذ على ارض صلبة لأن المنهج هو الذي يظل باقيا مهما تغيرت النتائج.
غير أن القول بأن المنهج هو العنصر الثابت في العلم قد يفهم بمعنى أن للعلم مناهج ثابتة لا تتغير وهذا فهم لا يعبر عن حقيقة العلم إذ أن مناهج العلم متغيرة بالفعل فهي أولا تتغير حسب العصور لأن كثيرا من العلوم غيرت مناهجها بتقدم العلم فالكيمياء مثلا تزداد اعتماداً على الأساليب الرياضية بعد أن كانت في بدايتها علما تجريبياً خالصاً لا شأن له بالرياضيات كذلك فان المناهج تتغير تبعا لنوع العلم ذاته إذ أن المنهج المتبع في علم يدرس الإنسان لا بد أن يكون مختلفا عن ذلك الذي يُتبع في علم طبيعي وهكذا لا يمكن القول بوجود منهج واحد ثابت للمعرفة العلمية على إطلاقها ومع ذلك يظل من الصحيح أن منهج العلم لا النظريات أو النتائج التي يصل إليها هو العنصر اللازم للعلم على الدوام بمعنى أن وجود منهج معين أيا كان هذا المنهج سمة أساسية في كل تفكير علمي.

بل أن في وسعنا أن نرى من حولنا أشخاصا لا يهتمون إلا ببلوغ النتيجة ولا يكترثون بأن يسألوا اذا كانت النتيجة على هذا النحو وربما رأوا في هذا السؤال حذلقة لا تستحق إضاعة الوقت ما دامت الإجابة عنه لن تقدم ولن تؤخر في بلوغ النتيجة المطلوبة ولكن هذا الاعتقاد بأن معرفة الأسباب ليس لها تأثير عملي هو اعتقاد واهم ذلك لان معرفة أسباب الظواهر هي التي تمكننا من أن نتحكم فيها على نحو افضل ونصل إلى نتائج عملية أنجح بكثير من تلك التي نصل إليها بالخبرة والممارسة فمن الدراسة الدقيقة لطبيعة الموجات الصوتية وكيفية انتقالها أمكن ظهور سلسلة طويلة من المخترعات كالتليفون ولاقط الاسطوانات .

فهناك نوع من اليقين نستطيع أن نطلق عليه اسم اليقين الذاتي وهو الشعور الداخلي لدى الفرد بأنه متأكد من شيء ما هذا النوع من اليقين كثيرا ما يكون مضللا إذ أن شعورنا الداخلي قد لا يكون مبنيا على أي أساس سوى ميولنا أو اتجاهاتنا الذاتية وأنا لنلاحظ في تجربتنا العادية أن أكثر الناس يقيناهم عادة أكثرهم جهلا فالشخص محدود الثقافة موقن بصحة الخبر الذي يقرؤه في الجريدة وبصحة الإشاعة التي سمعها من صديقه وبصحة الخرافة التي كانت تردد له في طفولته وهو لا يقبل أية مناقشة في هذه الموضوعات لأنها في نظره واضحة يقينية وكلما ازداد نصيب المرء من العلم تضاءل مجال الأمور التي يتحدث فيها عن يقين وازداد استخدامه لألفاظ مثل من المحتمل و من المرجح وأغلب الظن الخ بل إننا نجد بعض العلماء يسرفون في استخدام هذه التعبيرات الأخيرة في كتاباتهم إلى حد لا نكاد نجد معه تعبيرا جازما أو يقينيا واحدا في كل ما يكتبون إذ أن ممارستهم الطويلة للعمل العلمي وإدراكهم أن الحقائق العلمية في تغير مستمر وان ما كان بالأمس أمرا مؤكدا قد أصبح أمرا مشكوكا فيه وقد يصبح غدا أمرا باطلا كل ذلك يدفعهم إلى الحذر من استخدام اللغة القاطعة التي تعبّرعن يقين نهائي.

لقد آثر الإنسان طوال الجزء الأكبر من تاريخه ألا يواجه الواقع مواجهة مباشرة وان يستعيض عنه بأخيلته أو صوره الذاتية وهذا أمر لا يصعب فهمه إذ أن المواجهة المباشرة للواقع فيها صعوبة ومشقة وتحتاج منه إلى بذل جهد كبير وعليه أن يروض ذاته على طراح ميولها الخاصة جانبا وقبول الظواهر على ما هي عليه ثم استخلاص القانون الكامن من وراء هذه الظواهر وهو أمر يقتضي مستوى عاليا من التجريد وهكذ امكن القول أن اتجاه الإنسان نحو العلم ينطوي على قدر كبير من التضحية بالراحة والهدوء والاستسلام للخيال السهل الطليق كما ينطوي على عادات عقلية فيها قدر كبير من الصرامة والقسوة على النفس ولقد قال البعض أن العلم لم يبدأ إلا مع الرياضة وأحسب أن هذه العبارة تغدو أبلغ وأدق في التعبير عن البداية الحقيقية للعلم لو فهمنا لفظ الرياضة هذا لابمعنى أنه علم الأرقام والكم فحسب بل أيضا بالمعنى النفسي والأخلاقي أي بمعنى رياضة الروح أو النفس على اتباع نهج شاق من أجل فهم الظواهر بالعقل والمنطق الدقيق وبعبارة أخرى فان العلم يظهر منذ اللحظة التي يقرر فيها الإنسان أن يفهم العالم كما هو موجود بالفعل لا كما يتمنى أن يكون ومثل هذا القرار ليس عقليا فحسب بل هو بالإضافة إلى ذلك وربما قبل ذلك قرار معنوي وأخلاقي ولا بد للعقل البشرى أن يكون قد تجاوز مرحلة الطفولة التي نصور فيها كل شيء وفقا لأمانينا إلى مرحلة النضج التي تتيح لنا أن نعلو على الخلط بين الواقع والحلم أو الأمنية وهذا مستوى لا يصل إليه الإنسان إلا في مرحلة متأخرة من تطوره.

ولقد كان من الطبيعي أن يسود هذا النوع من التفسير الأسطوري في عصور طفولة البشرية إذ أن أول ما يتوقع من الإنسان حين يحاول أن يفهم العالم المحيط به هو أن يفهمه في ضوء الحالات التي مربها هو ذاته لان المشاعر والانفعالات هي أمور نحس بها في أنفسنا مباشرة ولا تحتاج إلى تعليم أو تدريب خاص ومن هنا فقد كان طبيعيا أن يصبغ الإنسان في أول عهده بمعرفة ظواهر الطبيعة بصبغة تلك الأحاسيس والخبرات التي يشعر بها في نفسه شعورا مباشرا فيتصورها كما لو كانت تنفعل وتفرح وتغضب وتحب وتكره مثله وهكذا علل البشر كسوف الشمس في إطار التفسير الأسطوري بأن الشمس غاضبة أو بأنها مكسوفة كما تغطى المرأة وجهها حين تنكسف وما زال لأمثال هذه التفسيرات وجوده في مجتمعاتنا الشرقية حتى اليوم.

وهكذا فانك إذا سألت: لماذا يسقط المطر ؟ كان رد أنصار التفكير الغائي هو : لكي يروى الزرع وإذاسألت: لماذا يحدث الزلزال أو الفيضان؟ كان الرد : لكي يعاقب أناسا ظالمين وهكذا يتصور هؤلاء أن مسلك الطبيعة مثل مسالك الإنسان فيقعون بذلك في شرك التفكير الأسطوري والدليل الواضح على إخفاق التعليل الغائي للظواهر الطبيعية هو أن هذا التعليل كثيرا ما يتخبط ويتناقض ففي الوقت الذي يعتقد فيه البعض أن المطر يسقط من أجل ري زراعته يرى البعض الآخر أنه يسقط لكي يروى ظمأه أو ظمأ ماشيته ويرى غيرهم أنه يسقط لكي يصنع بركة يستحم فيها بينما يرى صاحب الكوخ الهش أن سقوط المطر نقمة عليه وحتى الفيضان أو الزلزال الذي يبدو أنه لا يمكن أن يفسر إلا بأنه نقمة لا يصيب الأشرار وحدهم وإنما تضيع فيه أرواح بريئة كما تضيع فيه أرواح آثمة بل أن الأرواح البريئة كما في حالة الأطفال و المسنين مثلا ربما كانت أكثر تعرضا للضياع فيه من الأرواح الآثمة... هذا فضلا عن أن حادثا مؤلما كهذا لا يخلو من النفع لبعض الناس كمتعهدي نقل الموتى مثلا!

ولقد حرصنا على تأكيد هذه الحقيقة لكي نوضح بصورة قاطعة الاختلاف الأساسي بين وضع العالم الشرقي عموما والعربي بوجه خاص ووضع العالم الصناعي المتقدم بالنسبة إلى موضوع التفكير الخرافي ذلك لأن هناك كثيرين في بلادنا العربية يحاولون التخفيف من تأثير هذه الظاهرة أعني ظاهرة انتشار التفكير الخرافي في بلادنا عن طريق الإشارة إلى وجود ظواهرمماثلة في البلاد المتقدمة ومثل هذه المحاولة للتهوين من شأن الفكر الخرافي والتخفيف من خطره على مجتمعاتنا يعيبها أنها تقف عند حدود السطح الخارجي للظواهر ولا تتغلغل في أعماقها إذ يبدو ظاهريا أن الوضع متشابه في الحالتين وان كان مقدار انتشار الخرافات عندنا أعظم بمراحل منه في البلاد المتقدمة ولكن الحقيقة أن دلالة الظاهرة مختلفة في الحالتين تمام الاختلاف ففي حالة مجتمعاتنا يتخذ التفكير الخرافي شكل العداء الأصيل للعلم والعقل ومثل هذا العداء امتدادا واستمرارا لتاريخ طويل كان العلم يحارب فيه معركة شاقة لكي يثبت أقدامه في المجتمعات وإذا كان قد بدا خلال فترة قصيرة أن العلم تمكن من تأكيد ذاته في مجتمعنا العربي فمن المؤكد أن ذلك لم يحدث على مستوى المجتمع كله وأن العداء للعلم كان هو الغالب في بقية الفترات في تاريخنا وهكذا فان انتشار الخرافة مثل في حالتنا تعبيرا عن جمود المجتمع وتوقفه عند أوضاع قديمة ومقاومته للتطور السريع المحيط به من كل جانب والفرق واضح بين هذه الأسلوب في الفكر الخرافي وبين أسلوب تلك المجتمعات التي مرت بتجربة التفكير العقلي حتى أعلى مراتبها والتي يحاول بعض أفرادها أن يرتدوا عن هذه التجربة من موقع الاندماج فيها أو من موقع الجهل بها أو الخوف منها أو العجز عن تحقيقها أي أن الفرق واضح بين الفكر الخرافي حين يكون تعبيرا عن جمود متأصل وتحجر على أوضاع ظلت سائدة طوال ألوف السنين دون أن يرغب المجتمع في تغييرها أو يجرؤ عليه وبين هذا الفكر ذاته حين يكون تعبيرا محدود النطاق عن رغبة في التغيير يشعر بها مجتمع لا يستطيع أن يظل أمدا طويلا على حالة واحدة حتى لو كانت هذه الحال هي التفكير العقلي الرشيد وتلك مسألة نجد لزاما علينا أن ننبه إليها لان بعض كتابنا الواسعي الانتشار للأسف الشديد يرددون نفس الحجج التي يقول بها أنصار التفكير اللاعلمي في الغرب لكي يبرروا بها ابتعادنا نحن الشرقي عن التفكير العلمي وعدم ثقتنا في قدرات العقل وهذا خطأ كبير ومغالطة اكبر إذ أن دوافعنا في الابتعاد عن التفكير العلمي تختلف كل الاختلاف عن دوافع مجتمع مارس هذا التفكير قرونا عديدة في الوقت الذي لا نزال فيه نحن نكافح من أجل الدخول لأول مرة في عصر العلم الحديث.
والواقع أن الميل إلى الأخذ بسلطة القدماء يزداد في عصور الركود والانصراف عن التجديد ولا يمكن القول انه ميل طبيعي في العقل البشري ومن هنا يمكن القول أن هذا الخضوع لسلطة القدماء ليس في ذاته هو ا لمؤدى إلى تخلف الفكر العلمي بل أن هذا التخلف هو الذي يؤدي إليه إذا شئنا الدقة في التعبير والدليل على ذلك أن التقيد بسلطة القديم كان هو القاعدة السائدة في العصور الوسطى لان العصر ذاته كان عصر تحجر وجمود ومن هنا كان من الضروري التعويض عن هزال الحاضر بسلطة القديم وعلى العكس من ذلك فان العصور الحديثة قد حاربت هذا النوع من السلطة بكل ما أوتيت من قوة لأنها كانت عصورا ديناميكية متحركة يسودها الإحساس بالتفاؤل والثقة بقدرة الإنسان على التحكم في قوى الطبيعة بل إن الإنسان ا لمعاصر في بلاد العالم المتقدمة يكاد ينتقل إلى الطرف ا لمضاد فلدى الأجيال الجديدة إحساس واضح بأنها هي الأحكم والأوسع معرفة وبأن الأجيال القديمة لم تكن تعرف من أمور الحياة شيئا.

التعصب هو اعتقاد باطل بأن المرء يحتكر لنفسه الحقيقة أو الفضيلة وبأن غيره يفتقرون إليها ومن ثم فهم دائما مخطئون أو خاطئون ومن هنا فان التعصب الذي يتخذ شكل تحمس زائد للرأي الذي يقول به الشخص نفسه أو للعقيدة التي يعتنقها يتضمن في واقع الأمر بعدا آخر فهو يمثل في الوقت نفسه موقفا معينا من الآخرين
ولكن إذا قلنا أن ا تعصب يؤكد ذاته من خلال هدم آراء الآخرين فما الذي نعنيه بكلمة ذاته هذه؟ هل هي ذاته من حيث هو فرد؟ هل يريد المتعصب أن يؤكد آراءه أو مواقفه الشخصية على حساب الآخرين ؟ الواقع أن جوهر التعصب لا يكمن في اتخاذ مثل هذه المواقف الشخصية بل يكمن في توحيد الفرد لنفسه مع رأي الجماعة التي ينتمي إليها وإعلائه هذا الرأي فوق آراء أية جماعة أخرى فالتعصب في واقع الأمر يمحو شخصيته وفرديته ويذيب عقله أو وجدانه في الجماعة التي ينتمي إليها بحيث لا يحس بنفسه إلا من حيث هو جزء من هذه الجماعة ولو كان يؤكد نفسه بوصفه فردا له شخصيته المميزة لما أصبح متعصبا

وعلى الرغم من وضوح هذه الفكرة فان الإنسانية عاشت على ما تعتقد أنه حقائق ذاتية تتعصب لها بلا تفكير فترة أطول بكثير مما عاشت على حقائق موضوعية تتناقش فيها بالحجة والبرهان بل إن عدد أولئك الذين يقتنعون بآراء ومواقف يتعصبون لها دون نقد أو اختيار في عالمنا المعاصر يفوق بكثير عدد أولئك الذين لا يقبلون الرأي إلا بعد ان اختاره بالعقل ومن هنا فان المعركة الطويلة من اجل إقرار مبدأ التسامح في الفكر والعقيدة مستمرة وصحيح أنه يبدو ظاهريا أن التسامح قد تغلب على التعصب منذ أن أحرز العلم انتصاراته الكبرى في العصر الحديث ولكن الحقيقة للأسف غيرذلك فما زال التعصب كامنا في النفوس حتى في تلك البيئات التي يبدو فيها أنه قد اقتلع من جذوره

ومن السمات الأخرى التي أكد بيكن أهميتها في كل تفكير علمي أن هذا التفكير لا يسارع إلى التعميم كما كانت تفعل الفلسفات القديمة ولا ينساق وراء الطموح الزائد الذي يصور لكل فيلسوف أنه قادر على تقديم إجابات عن الأسئلة الكبرى ذات الطابع العام مثل أصل العالم ومصيره وغاياته الخ.... بل أن التفكير العلمي في رأيه أشد تواضعا من ذلك بكثيرفهو يضع لنفسه أهدافا محدودة وينتقل بثقة من حقيقة جزئية إلى حقيقة جزئية أخرى ولا يعمم نتائج أبحاثه إلا بحذر شديد وبقدر ما تسمح الحقائق الموجودة فحسب ومن مجموع هذه الحقائق الجزئية يعلو بناء المعرفة بالتدريج على أيدي الأعداد الكبيرة من العلماء الذين يتقاسمون فيما بينهم خلال الجيل الواحد المشكلات المطلوب حلها والذين يبدأ كل جيل جديد منهم من حيث انتهى الجيل السابق.


24 / 1 / 2009

0 تعليقات:

إرسال تعليق

الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]



<< الصفحة الرئيسية