حذاء الزيدي: البساطير في زمن الأساطير!
محمد أبو رمان
مشاعر الفرح والشماتة بضرب الرئيس بوش بحذاء منتظر الزيدي تعكس ما وصلت إليه صورة الولايات المتحدة وسمعتها العالمية خلال حقبة الرئيس بوش. ولعلّ هذه الحادثة تجسيد ذكي ورمزي تاريخي لنهاية هذه الحقبة.«حالة الفرح» العربية والإسلامية كان يمكن أن تُقرأ في هذا السياق «الرمزي» وحسب، وقد يضاف إليه ما عاناه العرب «خصوصاً» على يد إدارة بوش من انتهاك لكافة القوانين الدولية وحروب وكوارث تركت آثاراً دامية على شرائح واسعة في المجتمعات العربية والمسلمة.
لكن، وبرصد تداعيات حادثة «الحذاء» عربياً من خلال تغطية وسائل الإعلام والمقالات والتعليقات وأحاديث الشارع العربي، فإنّ التداعيات ذاتها تستدعي وقفة أكثر تعمقاً وتحليلاً، من مجرد نسبتها إلى الابتهاج والفرح.المسألة، هنا، لا ترتبط بالحادثة، مدحاً أو ذمّاً، بقدر ما ترتبط بـ»العقلية الأسطورية» والتفكير العاطفي- الغرائزي الذي لا يزال يحكم نطاق واسع في الرأي العام العربي، بل وطيف واسع من النخبة المثقفة والإعلامية.هي ذات العقلية التي جعلت من صدام حسين بطلاً، برغم أنه في أفضل الأحوال كان طاغية متجبر ورّط دولته وشعبه بمغامرات ومقامرات أعادته قروناً إلى الوراء، بينما كانت دعوات خطباء المنابر في أصقاع عديدة من العالم العربي والإسلامي تقفز على ذلك وتصوره للملايين المخدّرين بأنه «صلاح الدين الجديد القادم لفتح بيت المقدس وتحرير العالم العربي والإسلامي»، بل تنسب أحاديث وروايات للنبي تبشر بأن صدام هو البطل القادم لهزيمة «الروم» والإسرائيليين.هي ذات العقلية التي تصوّر خلاص الأمة العربية والإسلامية على يد «المهدي المنتظر»، فننتظر جميعاً ذلك الشخص الذي يخلصنا من أزمات التنمية ويواجه الهيمنة الأميركية، ويبدل بين ليلة وضحاها معدلات النمو الاقتصادي، ويرقّع الفجوة المعرفية والتقنية الفلكية بين العرب وغيرهم من أمم!لم يلتفت من بالغوا في الاحتفاء والتهليل والتعليق على حادثة «حذاء الزيدي» إلى أنّ ما يحدث في العراق ليس جميعه من صنع بوش وجنده وأنّ من سهّل الاحتلال هي شريحة واسعة من المجتمع العراقي كانت تشعر بالظلم الشديد من حقبة صدام، وأنّ عراقيين سبقوا ذلك بضرب تمثال الرئيس المخلوع (صدام) بالأحذية قبل بوش، وأنّ مجتمعاتنا لديها من الأمراض من هشاشة نفسية وأزمات سياسية (ضعف الشعور بالدولة، العجز عن الاندماج الاجتماعي، أزمة الهوية الوطنية) ما يجعل من الاحتلال نتيجة لا سبباً.والأهم هو غياب الجماعة الوطنية الحاضنة للجميع، فكل ذلك ليس صنيعة الاحتلال كما يدندن العديد من المحللين والمعلقين السياسيين، بل «كشفه» الاحتلال، وثمة فارق كبير بين القراءتين.هذا المقال ليس جلداً للذات، ولا ينتمي إلى مازوشية عربية كما سيُتّهم، لكنه دعوة إلى الخروج من العقل الأسطوري والتعلق بالأوهام والدفع دوما بتبرئة الذات من كل المصائب والعلل التي نبتلى بها وإلقاء كل ذلك في ذمة الآخرين. حتى في النص القرآني فإنّ الهزيمة العسكرية في معركة أُحد فإنّه ردّها إلى «الأمراض الداخلية» بالقول: « أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم آنّى هذا؟! قل هو من عند أنفسكم».أخطر في تداعيات حادثة «الحذاء» أنّها مؤشر حيوي وواضح على أنّ الخطاب السياسي الذي قادنا إلى الكوارث لا يزال فاعلاً وأنّ التيار الأكبر من الرأي العام العربي والإسلامي لا يزال مرشّحاً للوقوع أسيراً لدجل سياسيين وحركات وللغة الشعارات والعواطف. وأنّنا لم نستدل، بعد، على الأمراض الفتاكة وعلى الطريق الصحيح التي يجدر أن نسلكها للخروج منها.ما يجدر بأهل الفكر والإعلام أن يقدموه للناس بدلاً من تخديرهم في أوهام وأحلام بأن يضعوا أصابعهم على أدوائنا الحقيقية القاتلة التي تودي بنا إلى الحال الراهنة.فـ»الحذاء» أجدر أن ترمى به معدّلات الأمية الكبيرة التي لا تزال تعيشها المجتمعات العربية اليوم، في وقت تتنافس فيه دول العالم على تطوير التقنيات الدقيقة الرقمية، وفي تطوير اقتصاديات المعرفة لتشكل مصدر دخل رئيس في معدل الانتاج القومي لديها.«الحذاء» أجدر أن ترمى به الفجوة التنموية التي يعيشها العالم العربي اليوم وتأخره عن مختلف دول العالم، حتى تلك الدول الإسلامية التي كانت وراء ظهر العالم العربي قبل عقود باتت تعد اليوم جزءاً من العالم الأول، كما هي حال كوالامبور، بينما العالم العربي فهو يسير إلى الوراء في كافة المجالات!«الحذاء» أجدر أن ترمى به الحالة السياسية العربية التي تسودها عناوين الأمن والهراوات والفساد السياسي وغياب الحاكمية والديموقراطية، بينما دخلت دول في قلب القارة السمراء في الموجة الديموقراطية!«الحـذاء» هـو على الحـالـة العـامـة التي أنتجت «القاعدة» وخطابها وعملياتها العدمية، وذلك التعـبـيـر الأهـم عـن الفشل والعجز في مواجهة الفـقـر والبطالة وتحدي الحداثة وأزمة الهويـة وكافـة الأرقـام التـي تـظهـر أيـن نـحـن فـي التـاريـخ والجغرافيا بين سائر الأمم والمجتمعات!ليس صحيحاً أنّ «حذاء الزيدي» هو تتمة لأحذية الأميركيين التي طبعت نهاية بوش في الانتخابات الأميركية، فالأميركيون أطاحوا برئيسهم بصناديق الاقتراع وبممارسة حق الإنسان في تغيير حكومته والآتيان بجديدة، هذا هو العالم المتحضر والنموذج في التعاطي مع الأزمات والمشكلات السياسية وفي التعبير الصحيح عن المصالح والمطالب!ربما تلخص عبارة مالك بن نبي الثنائية المقصودة بهذا المقال «إذا غابت الفكرة ظهر الوثن».* نقلا عن صحيفة "الحياة" اللندنية
http://www.alarabiya.net/views/2008/12/21/62453.html
مشاعر الفرح والشماتة بضرب الرئيس بوش بحذاء منتظر الزيدي تعكس ما وصلت إليه صورة الولايات المتحدة وسمعتها العالمية خلال حقبة الرئيس بوش. ولعلّ هذه الحادثة تجسيد ذكي ورمزي تاريخي لنهاية هذه الحقبة.«حالة الفرح» العربية والإسلامية كان يمكن أن تُقرأ في هذا السياق «الرمزي» وحسب، وقد يضاف إليه ما عاناه العرب «خصوصاً» على يد إدارة بوش من انتهاك لكافة القوانين الدولية وحروب وكوارث تركت آثاراً دامية على شرائح واسعة في المجتمعات العربية والمسلمة.
لكن، وبرصد تداعيات حادثة «الحذاء» عربياً من خلال تغطية وسائل الإعلام والمقالات والتعليقات وأحاديث الشارع العربي، فإنّ التداعيات ذاتها تستدعي وقفة أكثر تعمقاً وتحليلاً، من مجرد نسبتها إلى الابتهاج والفرح.المسألة، هنا، لا ترتبط بالحادثة، مدحاً أو ذمّاً، بقدر ما ترتبط بـ»العقلية الأسطورية» والتفكير العاطفي- الغرائزي الذي لا يزال يحكم نطاق واسع في الرأي العام العربي، بل وطيف واسع من النخبة المثقفة والإعلامية.هي ذات العقلية التي جعلت من صدام حسين بطلاً، برغم أنه في أفضل الأحوال كان طاغية متجبر ورّط دولته وشعبه بمغامرات ومقامرات أعادته قروناً إلى الوراء، بينما كانت دعوات خطباء المنابر في أصقاع عديدة من العالم العربي والإسلامي تقفز على ذلك وتصوره للملايين المخدّرين بأنه «صلاح الدين الجديد القادم لفتح بيت المقدس وتحرير العالم العربي والإسلامي»، بل تنسب أحاديث وروايات للنبي تبشر بأن صدام هو البطل القادم لهزيمة «الروم» والإسرائيليين.هي ذات العقلية التي تصوّر خلاص الأمة العربية والإسلامية على يد «المهدي المنتظر»، فننتظر جميعاً ذلك الشخص الذي يخلصنا من أزمات التنمية ويواجه الهيمنة الأميركية، ويبدل بين ليلة وضحاها معدلات النمو الاقتصادي، ويرقّع الفجوة المعرفية والتقنية الفلكية بين العرب وغيرهم من أمم!لم يلتفت من بالغوا في الاحتفاء والتهليل والتعليق على حادثة «حذاء الزيدي» إلى أنّ ما يحدث في العراق ليس جميعه من صنع بوش وجنده وأنّ من سهّل الاحتلال هي شريحة واسعة من المجتمع العراقي كانت تشعر بالظلم الشديد من حقبة صدام، وأنّ عراقيين سبقوا ذلك بضرب تمثال الرئيس المخلوع (صدام) بالأحذية قبل بوش، وأنّ مجتمعاتنا لديها من الأمراض من هشاشة نفسية وأزمات سياسية (ضعف الشعور بالدولة، العجز عن الاندماج الاجتماعي، أزمة الهوية الوطنية) ما يجعل من الاحتلال نتيجة لا سبباً.والأهم هو غياب الجماعة الوطنية الحاضنة للجميع، فكل ذلك ليس صنيعة الاحتلال كما يدندن العديد من المحللين والمعلقين السياسيين، بل «كشفه» الاحتلال، وثمة فارق كبير بين القراءتين.هذا المقال ليس جلداً للذات، ولا ينتمي إلى مازوشية عربية كما سيُتّهم، لكنه دعوة إلى الخروج من العقل الأسطوري والتعلق بالأوهام والدفع دوما بتبرئة الذات من كل المصائب والعلل التي نبتلى بها وإلقاء كل ذلك في ذمة الآخرين. حتى في النص القرآني فإنّ الهزيمة العسكرية في معركة أُحد فإنّه ردّها إلى «الأمراض الداخلية» بالقول: « أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم آنّى هذا؟! قل هو من عند أنفسكم».أخطر في تداعيات حادثة «الحذاء» أنّها مؤشر حيوي وواضح على أنّ الخطاب السياسي الذي قادنا إلى الكوارث لا يزال فاعلاً وأنّ التيار الأكبر من الرأي العام العربي والإسلامي لا يزال مرشّحاً للوقوع أسيراً لدجل سياسيين وحركات وللغة الشعارات والعواطف. وأنّنا لم نستدل، بعد، على الأمراض الفتاكة وعلى الطريق الصحيح التي يجدر أن نسلكها للخروج منها.ما يجدر بأهل الفكر والإعلام أن يقدموه للناس بدلاً من تخديرهم في أوهام وأحلام بأن يضعوا أصابعهم على أدوائنا الحقيقية القاتلة التي تودي بنا إلى الحال الراهنة.فـ»الحذاء» أجدر أن ترمى به معدّلات الأمية الكبيرة التي لا تزال تعيشها المجتمعات العربية اليوم، في وقت تتنافس فيه دول العالم على تطوير التقنيات الدقيقة الرقمية، وفي تطوير اقتصاديات المعرفة لتشكل مصدر دخل رئيس في معدل الانتاج القومي لديها.«الحذاء» أجدر أن ترمى به الفجوة التنموية التي يعيشها العالم العربي اليوم وتأخره عن مختلف دول العالم، حتى تلك الدول الإسلامية التي كانت وراء ظهر العالم العربي قبل عقود باتت تعد اليوم جزءاً من العالم الأول، كما هي حال كوالامبور، بينما العالم العربي فهو يسير إلى الوراء في كافة المجالات!«الحذاء» أجدر أن ترمى به الحالة السياسية العربية التي تسودها عناوين الأمن والهراوات والفساد السياسي وغياب الحاكمية والديموقراطية، بينما دخلت دول في قلب القارة السمراء في الموجة الديموقراطية!«الحـذاء» هـو على الحـالـة العـامـة التي أنتجت «القاعدة» وخطابها وعملياتها العدمية، وذلك التعـبـيـر الأهـم عـن الفشل والعجز في مواجهة الفـقـر والبطالة وتحدي الحداثة وأزمة الهويـة وكافـة الأرقـام التـي تـظهـر أيـن نـحـن فـي التـاريـخ والجغرافيا بين سائر الأمم والمجتمعات!ليس صحيحاً أنّ «حذاء الزيدي» هو تتمة لأحذية الأميركيين التي طبعت نهاية بوش في الانتخابات الأميركية، فالأميركيون أطاحوا برئيسهم بصناديق الاقتراع وبممارسة حق الإنسان في تغيير حكومته والآتيان بجديدة، هذا هو العالم المتحضر والنموذج في التعاطي مع الأزمات والمشكلات السياسية وفي التعبير الصحيح عن المصالح والمطالب!ربما تلخص عبارة مالك بن نبي الثنائية المقصودة بهذا المقال «إذا غابت الفكرة ظهر الوثن».* نقلا عن صحيفة "الحياة" اللندنية
http://www.alarabiya.net/views/2008/12/21/62453.html
0 تعليقات:
إرسال تعليق
الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]
<< الصفحة الرئيسية