استوقفتني من قرآتي ( 5 )
شروط النهضة ـ مالك بن نبي
ابذر يا أخي الزارع ، من أجل أن تذهب بذورك
بعيداً عن حقلك ، في الخطوط التي تتناءي عنك ... في عمق المستقبل
هاهي بعض الأصوات تهتف ، الأصوات التي أيقظتها
خطواتك في المدينة ، وأنت منقلب إلي كفاحك الصباحي ، وهؤلاء الذين استيقظوا بدورهم
سيلتئم شملهم معك بعد حين
إن مشكلة كل شعب هي في جوهرها مشكلة حضارته
، ولا يمكن لشعب أن يفهم أو يحل مشكلته مالم يرتفع بفكرته إلي الاحداث الانسانية
فلقد كان علي الحركة الإصلاحية أن تبقي
متعالية علي أوحال السياسة والمطامع الانتخابية ، ومعارك الأوثان ، ولكن العلماء آنذاك
قد وقعوا في الوحل حين تلطخت ثيابهم البيضاء ، وهبطت معهم الفكرة الاصلاحية فجرت في
المجري الذي تجري فيه " الشامبانيا" في الأعراس الانتخابية ، الممزوجة أحياناً
بدم تريقة اليد السوداء لإغتيال الإصلاح
وهكذا أتيح (( جمعية العلماء )) أن تمسك
مقاليد النهضة الجزائرية ، وأمكنه أن يبعثها خلقاً آخر بالروح الإسلامية ، التي تخلصت
من كابوس الأوثان ، وكأني بالفكرة الإصلاحية قد بلغت أوجها وانتصرت يوم افتتاح المؤتمر
الجزائري عام 1936 ، مما جعلنا نتسائل : هل سوف نمضي هكذا حتى النهاية ؟
لقد كان ذلك ممكناً ، لوم لم يشعر العلماء
المصلحون بكل أسف بمركب النقص إزاء قادة السياسة في ذلك العهد ، فمالؤوهم وسايروهم
، ظناً منهم أنهم سوف يذودون عنهم نوائب الحكومة ، ولقد كان ذلك ممكناً لو لم يكونوا
علي استعداد للعودة إلي فكرة الزوايا ذات الطابع السياسي ، والاصنام المزوقة بأسماء
جديدة ، لقد كانوا يستطيعون أن يبلغوا ذلك لو أن أوراق الحروز التي نبذها الشعب لم
ترجع إليه بإسم اوراق الانتخابات ، ولو أن العقول التي كانت تصدق بالمعجزات الكاذبة
، لم تعد مرة أخرى تصدق بمعجزات صناديق الانتخابات
وها هم قد جملوا الاصنام ليلحقوا الهوان
بالفكرة
ولكن شمس المثالية ستتابع سيرها دون تراجع
، وستعلن قريباً انتصار الفكرة ، وانهيار الأصنام ، كما حدث يوم تحطم "هبل
" في الكعبة
وأصبحت الحركة الجزائرية منذ ذلك الحين
لا ترأسها فكرة بل تقودها أوثان ، وليس يهمنا هنا الشكل ، بل الموضوع ، فليس الخطر
من الانقياد إلي نوع من الدروشة ، ولكن الخطر من الانقياد الأعمي إلي الدروشة ذاتها
، وليس الخطر أيضاً من إسم الصنم ، ولكن من سيطرة الوثنية .
إن جوهر المسألة هو مشكلتنا العقلية ، ونحن
لا زلنا نسير ورؤوسنا في الأرض وأرجلنا في الهواء ، وهذا القلب للأوضاع هو المظهر الجديد
لمشكلة نهضتنا
وإنه ليجب بادئ الأمر تصفية عادتنا وتقاليدنا
، وإطارنا الخلقي والاجتماعي مما فيه من عوامل قتالة ، ورمم لا فائدة منها ، حتى يصفو
الجو للعوامل الحية والداعية إلي الحياة .
وإن هذه التصفية لا تأتي إلا بفكر جديد
، يحطم ذلك الوضع الموروث عن فترة تدهور مجتمع أصبح يبحث عن وضع جديد
إن الكلمة لمن روح القدس ، إنها تساهم إلي
حد بعيد في خلق الظاهرة الاجتماعية ، فهي ذات وقع في ضمير الفرد شديد ، إذ تدخل إلي
سويداء قلبه ، فتستقر معانيها فيه ، لتحوله إلي إنسان ذي مبدأ ورسالة
فالكلمة يطلقها إنسان ، تستطيع أن تكون
عاملاً من العوامل الاجتماعية حين تثير عواصف في النفوس تغير الأوضاع العالمية .
من المعروف أن القرآن الكريم قد أطلق إسم
الجاهلية علي الفترة التي كانت قبل الإسلام ، ولم يشفع لهم شعر رائع ، وأدب فذ ، من
أن يصفهم القرآن بهذا الوصف ، لأن التراث العربي لم يكن يحوي سوي الديباجة المشرقة
، الخالية من كل عنصر " خلاق " أو فكر عميق ، وإذا كانت الوثنية في نظر الإسلام
جاهلية ، فإن الجهل في حقيقتة وثنية ، لأنه لا يغرس أفكاراً ، بل ينصب أصناماً ، وهذا
هو شأن الجاهلية ، فلم يكن من باب الصدفة المحضة أن تكون الشعوب البدائية وثنية ساذجة
، ولم يكن عجيباً أيضاً أن مر الشعب العربي بتلك
المرحلة ، حين شيد معبداً للدراوويش المتصرفين في الكون ، ومن سنن الله في خلقه أنه عندما تغرب الفكرة يبزغ
الصنم ، والعكس صحيح أحياناً
وإذن فلا يجوز لنا أن نغفل الحقائق ،
فالحكومة مهما كانت ما هي إلا آلة اجتماعية تتغير تبعاً للوسط الذي تعيش فيه
وتتنوع معه ، فإذا كان الوسط نظيفاً حراً ، فما تستطيع الحكومة أن تواجهه بما ليس
فيه ، وإذا الوسط كان متسماً بالقابلية إلي الاستعمار فلابد من أن تكون حكومته
إستعمارية
ولاشك في ان الأزمة السياسية الراهنة تعود في
تعقدها إلي أننا نجهل أو نتجاهل القوانين الأساسية التي تقوم عليها الظاهرة
السياسية والتي تقتضينا أن ندخل في اعتبارنا دائماً صلة الحكومة بالوسط الاجتماعي
، كآلة مسيرة له ، وتتأثر به في وقت واحد ، وفي هذا دلالة علي ما بين تغير النفس
وتغيير الوسط الاجتماعي من علاقات متينة ، ولقد قال الكاتب الاجتماعي " بورك
" (( إن الدولة التي لا تملك الوسائل لمسايرة التغيرات الاجتماعية لا تستطيع
أن تحتفظ ببقائها ))
وهكذا تحول الشعب إلي جماعة من المستمعين ،
يصفقون لكل خطيب أو قطيع انتخابي ، يقاد إلي صناديق الاقتراع ، او قافلة عمياء
زاغت عن الطريق ، فذهبت حيث قادتها الصدف في تيار المرشحين .
وفي هذا اختلاس أي اختلاس للعقول التي أشرفت
علي قطف ثمار نهضتها ، فإن هذه العقول قد عادت إليها الوثنية ، تلك الوثنية التي
تلد الأصنام المتعاقبة المتطورة ، كما تتطور الدودة الصغيرة إلي فراشة طائرة ، إذا
ما صادفت جواً ملائماً ، وهذا يعني أن البلاد لم تتحقق فيها النهضة المنشودة ، وكل
الذي كان هو أن أحداثاً صدمتها صدمة عنيفة أيقظتها من نومها ، ثم لم تلبث بعد أن
زال أثر هذه الصدمة أن غالبها النعاس ، فعادت إلي النوم ، وأمكنها في نومتها هذه
أن تعود إلي أحلامها ، غير أن أحلام ذات موضوع آخر ، إنها أحلام الانتخابات ، قامت
علي أطلال الزوايا المهدمة التي دمرها معول الاصلاح الأول .
وقبل بدء دورة من دورات الحضارة أو عند
بدايتها يكون الإنسان في حالة سابقة للحضارة ، أما في نهاية الدورة فإن الانسان
يكون قد تفسخ حضارياً وسلبت منه الحضارة تماماً فيدخل في عهد ما بعد الحضارة
إذا الإنسان الذي تفسخ حضارياً مخالف تماماً
للإنسان السابق علي الحضارة أو الانسان الفطري ، فالأول ليس مجرد إنسان خارج عن
الحضارة فحسب ، كما هي الحال مع الثاني الذي أسميناه بالإنسان الطبيعي ، إذ
الإنسان المسلوب الحضارة لم يعد قابلاً لإنجاز عمل متحضر ، إلا اذا تغير هو نفسه
عن جذوره الأساسية .
وعلي العكس من ذلك ، فإن الانسان السابق علي
الحضارة يظل مستعداً كما هي الحال مع البدوي المعاصر للنبي للدخول في دورة الحضارة
.
ونتيجة هذا التحريف لمعني الثقافة متجسدة في
ذات ما نسميه (( المتعالم أو المتعاقل ))
والحقيقة أننا قبل خمسين عاما كنا نعرف مرضا
واحدا يمكن علاجه، هو الجهل والأمية، ولكننا اليوم أصبحنا نرى مرضا جديدا مستعصيا
هو: "التعالم". وإن شئت فقل: الحرفية في التعلم؛ والصعوبة كل الصعوبة في
مداواته. وهكذا فقد أتيح لجيلنا أن يرى خلال النصف الأخير من هذا القرن ظهور
نموذجين من أفراد في مجتمعنا:حامل المرقعات ذي الثياب البالية، وحامل اللافتات
العلمية»
فإذا كنا ندرك بسهولة كيف نداوي المريض الأول
، فإن مداواتنا للمريض الثاني لا سبيل إليها ، لأن عقل هذا المريض لم يقتن العلم
ليصيره ضميراً فعالاً ، بل ليجعله آلة للعيش ، وسلماً يصعد به إلي منصة البرلمان ،
وهكذا يصبح العلم مسخة وعملة زائفة ، غير قابلة للصرف ، وإن هذا النوع من الجهل
لأدهي وأمر من الجهل المطلق ، لأنه جهل حجرته الحروف الأبجدية ، وجاهل هذا النوع
لا يقوم الأشياء بمعانيها ولا يفهم الكلمات بمراميها ، وإنما بحسب حروفها ، فهي
تتساوي عنده إذا ما تساوت حروفها
فإذا ما كتبت له النجاة من كل هذه النكبات ،
وهيئت له الأسباب لأن يجد مقعداً في مدرسة .. فكم من العراقيل توضع في طريقه ،
ممتحنون بلا إنتصاف ، وحكام بلا شفقة ، ومستخدمون بلا ضمير ، وأخيراً فكم يلاقي
ذلك الفتي في سبيل الحصول علي وظيفة حقيرة !!!
وإذا ما بلغ مبلغ الرجال ماذا يعمل ؟ فالشراء
والبيع والسفر والكلام والكتابة والتلفون وكل الأعمال التي تقوم عليها حياته
الاجتماعية لا تنالها يداه إلا بشق الأنفس ، ومن خلال شبكة دقيقة مسمومة من
الاحقاد ، تسلبه كل وسيلة لإقامة حياته ، وتنشر من حوله الأفكار المحطمة لقيمته
والمعرقلة لمصالحة ، فتحيطه بشبكة محكمة ينسجها خبث المستعمر " المستبد
" الداهية
ولا شك في ان عقائدنا السياسية تدين لتلك
القيم الفاسدة للحضارة ، وتلك العقائد التي تمثلت عندنا اليوم في أسطورة : ( الشئ
الوحيد ) و ( الرجل الوحيد ) الذي ينقذنا .
وحيث لم يتيسر لنا عام 1936 أن نضع آمالنا في
( شئ وحيد ) فقد وضعناها في ( الرجل الوحيد ) الذي بيده سعادة الشعب ورخاؤه .
ومازالت هذه العقيدة الوثنية التي تقدس
الاشخاص لازالت منتشرة في بلاد الإسلام ، لم تتخلص منها ، وإن كنا قد فعلنا شيئاً
فربما كان ذلك في استبدالنا وثناً بوثن ، فلعلنا اليوم قد استبدلنا ( الرجل الوحيد
)( بالشئ الوحيد ).
فالتاجر الذي تنجح تجارته يجزم بلا تردد بأن
النجاة في الاقتصاد ، وآخرون يرون الشئ الوحيد في البيان وتزويق الكلام ....
وهكذا ننتقل من وهم لنتخبط في وهم ، ولا ندري
كم من السنين سوف نقضيها لندرك عجز ( الأشياء الوحيدة ) عن حل المشكلة ، التي هي
مشكلة الحضارة أولاً وقبل كل شئ ..
0 تعليقات:
إرسال تعليق
الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]
<< الصفحة الرئيسية